.تغيّر المناخ والأمن البشري ومسؤوليّة الدّولد – د. إلهام الشحيمي

تغير المناخ ليس مجرد تحد بيئي، بل هو قضية تتقاطع مع الأمن الإنساني، الاستقرار السياسي، والتنمية المستدامة. الآثار المترتبة على تغير المناخ تتجاوز الحدود الجغرافية، وتؤثر على جميع الأمم والشعوب، ما يجعل من الضروري التعاون الدولي والعمل المشترك لمواجهة هذه التحديات.

 تزداد الدعوات إلى اعتبار تغير المناخ مشكلة “أمنية”، وهناك تكهنات بأن تغير المناخ قد يزيد من خطر النزاعات العنيفة. نطرح ثلاثة مجالات بحثية متباينة لكنها مؤسسة جيداً حول هشاشة الأماكن المحلية والمجموعات الاجتماعية تجاه تغير المناخ، وعن سبل العيش والنزاع العنيف، ودور الدولة في التنمية وصنع السلام، لتقديم رؤى جديدة حول العلاقات بين تغير المناخ، الأمن البشري، والنزاع العنيف.

يظهر لنا أن تغير المناخ يقوض تقويضاً متزايداً الأمن البشري في الوقت الحاضر، وسيستمر في القيام بذلك في المستقبل، من خلال تقليل الوصول إلى الموارد الطبيعية المهمة للحفاظ على سبل العيش. من المحتمل أيضاً أن يقوض تغير المناخ قدرة الدول على توفير الفرص والخدمات التي تساعد الناس على الحفاظ على سبل عيشهم. كما نرى أنه في ظروف معينة قد تؤدي هذه التأثيرات المباشرة وغير المباشرة لتغير المناخ على الأمن البشري، بدورها، إلى زيادة خطر النزاع العنيف. ثم يحدد البحث المعالم العريضة لبرنامج بحثي لتوجيه التحقيقات التجريبية حول المخاطر التي يشكلها تغير المناخ على الأمن البشري والسلام.

ظهرت مجموعة كبيرة من الأبحاث التي تشير إلى أن تغير المناخ له، وستكون له، تأثيرات دراماتيكية متزايدة على الأنظمة البيئية والاجتماعية (ملخص في IPCC، 2001، IPCC، 2007). المخاطر كبيرة لدرجة أن هدف اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ هو تجنب التدخل “الخطير” في نظام المناخ، وقد تم تعريف هذه التأثيرات على أنها تهديد لـ”الأمن” (بارنيت، 2003، بارنيت وآدجر، 2003، براون، 1989، إدواردز، 1999، سوارت، 1996). كانت هناك بعض التكهنات حول الطرق التي قد يزيد بها تغير المناخ من خطر النزاع العنيف (براوش، 2002، غليك، 1992، هومر-ديكسون، 1991، فان آيرلند وآخرون، 1996). هناك طريقتان قد يحفز بهما تغير المناخ النزاع. أولاً، قد يأتي النزاع من خلال التغييرات في الاقتصاد السياسي لموارد الطاقة بسبب الإجراءات التخفيفية لتقليل الانبعاثات من الوقود الأحفوري (ريفكين، 2002). المسألة الثانية هي احتمال النزاع الذي يحفزه التغيير في الأنظمة الاجتماعية المدفوع بالتأثيرات الفعلية أو المتصورة لتغير المناخ.

تهتم هذه المقالة بالموضوع الثاني من هذه الاحتمالات، وتقدم رؤى جديدة حول العلاقات بين تغير المناخ، الأمن البشري، والنزاع العنيف من خلال دمج ثلاثة مجالات بحثية متباينة لكنها مؤسسة جيداً حول هشاشة الأماكن المحلية والمجموعات الاجتماعية تجاه تغير المناخ، وعن سبل العيش والنزاع العنيف، ودور الدولة في التنمية وصنع السلام. يُعتبر الأمن البشري هنا الحالة التي يمتلك فيها الأشخاص والمجتمعات القدرة على إدارة الضغوط على احتياجاتهم، حقوقهم، وقيمهم (بعد ألكير، 2003).

تحتوي هذه المقالة على ثلاثة أقسام رئيسية. أولاً، يشرح كيف قد يقوض تغير المناخ الأمن البشري من خلال تقليل الوصول إلى الموارد الطبيعية الهامة للحفاظ على سبل العيش وجودتها. ثانياً، يقترح أن أنواع انعدام الأمن البشري التي قد يؤثر عليها تغير المناخ يمكن أن تزيد بدورها من خطر النزاع العنيف. ثالثاً، يجادل بأن تغير المناخ قد يقوض قدرة الدول على التصرف بطرق تعزز الأمن البشري والسلام. عموماً، نقترح أنه، من خلال التأثيرات المباشرة على سبل العيش والتأثيرات غير المباشرة على وظائف الدولة، قد يزيد تغير المناخ في ظروف معينة من خطر النزاع العنيف. ومع ذلك، لم يتم إثبات هذه الروابط بين تغير المناخ، الأمن البشري، الدولة والنزاع العنيف تجريبياً.

تغير المناخ والأمن البشري

يعتبر تغير المناخ من بين أبرز التحديات التي تواجه البشرية في العصر الحديث، وهو يؤثر على كل أوجه الحياة على كوكب الأرض. هذه الظاهرة التي لا تعرف حدوداً جغرافية أو سياسية، تحمل تداعيات عميقة ومتعددة الأوجه على الأنظمة البيئية والاجتماعية على حد سواء. الإجماع الواسع الذي توصل إليه العلماء والخبراء البيئيون يشير إلى أن التغيرات الجارية في نظام مناخ الأرض لا مثيل لها في تاريخ الحضارة البشرية، ما يضع الإنسانية أمام تحديات غير مسبوقة.

أولاً، تغير المناخ يؤدي إلى تحولات بيئية كبيرة تؤثر مباشرة على الأمن الغذائي والمائي في مختلف أنحاء العالم. زيادة درجات الحرارة، تغير أنماط الأمطار، وتكثيف الظواهر الجوية المتطرفة كالعواصف والجفاف، كلها عوامل تهدد الإنتاج الزراعي وتوافر المياه، ما يضع ضغوطاً كبيرة على الموارد الطبيعية التي تعتبر أساسية لبقاء الإنسان والنظم البيئية.

ثانياً، يتسبب تغير المناخ في تفاقم مشكلات بيئية مثل الارتفاع في مستويات البحر والتآكل الساحلي، ما يهدد المجتمعات الساحلية بالنزوح وفقدان المواطن. هذه التغيرات تضع ضغوطاً إضافية على المدن والبلدان التي تحاول استيعاب السكان النازحين، ما يؤدي إلى تحديات اجتماعية واقتصادية وأمنية.

ثالثاً، تغير المناخ يعمل كمحفز للنزاعات الإنسانية من خلال تفاقم النقص في الموارد الطبيعية. الصراع على المياه والأراضي الزراعية يصبح أكثر حدة في ظل الضغوط البيئية، ما يزيد من خطر النزاعات ويهدد الأمن البشري. في ظل هذه الظروف، تضعف قدرة الدول على توفير الأمن والخدمات الأساسية.

رابعاً، تغير المناخ يؤثر أيضاً على الصحة العامة من خلال زيادة انتشار الأمراض المنقولة بالماء والتي تنتقل عبر النواقل مثل البعوض، الذي يجد في درجات الحرارة المرتفعة ظروفاً مثالية للتكاثر.

إن التعامل مع هذه التحديات يتطلب استجابة عالمية موحدة تتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية، مع التركيز على التخفيف من آثار تغير المناخ وتعزيز القدرة على التكيف مع التغيرات الجديدة. يعد التعاون الدولي والابتكار في تكنولوجيا الطاقة المتجددة والممارسات الزراعية المستدامة من بين الخطوات الضرورية لمواجهة هذه التحديات العالمية وحماية الأمن البشري للأجيال الحالية والمستقبلية.

انعدام الأمن البشري والنزاع العنيف

انعدام الأمن البشري والنزاع العنيف يمثلان وجهين لعملة واحدة في كثير من الأحيان، إذ يؤدي تدهور الظروف المعيشية وفقدان الأمان إلى زيادة احتمالية الصراعات والنزاعات. في هذا السياق، يُعتبر فهم العلاقة بينهما ضرورياً لتطوير استراتيجيات فعالة للوقاية من النزاعات وإدارتها.

أولاً، يعتبر انعدام الأمن البشري حالة تفتقر فيها المجتمعات أو الأفراد إلى الضمانات الأساسية للحماية من التهديدات المتعلقة بالبقاء على قيد الحياة، الكرامة، ومستوى المعيشة. هذه التهديدات قد تشمل الجوع، الأمراض، الاضطهاد، العنف، أو فقدان الموارد الطبيعية. عندما تتفاقم هذه الظروف، قد يجد الأفراد أو المجموعات أنفسهم في حالة من اليأس تدفعهم نحو اللجوء إلى العنف كوسيلة للبقاء أو تحقيق مطالبهم.

ثانياً، تُظهر الأبحاث أن الشروط الهيكلية مثل الفقر المدقع، عدم المساواة في توزيع الموارد، التمييز الاجتماعي والعرقي، وغياب الحوكمة الفعالة، تزيد من مخاطر تفجر النزاعات العنيفة. هذه الشروط تخلق بيئة خصبة لنمو الاستياء والتوترات، ما يجعل الانزلاق نحو العنف أمراً أكثر احتمالاً في ظل ضغوط معينة.

ثالثاً، التغير المناخي وتدهور البيئة يعتبران من المساهمين الرئيسيين في تعميق انعدام الأمن البشري، إذ يؤديان إلى نقص الموارد الطبيعية مثل المياه والأراضي الصالحة للزراعة. هذا النقص يمكن أن يؤدي إلى تنافس شديد بين المجتمعات والدول، ما يزيد من احتمالية نشوء النزاعات.

رابعاً، يؤكد البحث أهمية دور الدولة في منع النزاعات وتعزيز الأمن البشري من خلال توفير الخدمات الأساسية، تحسين الحوكمة، ودعم التنمية المستدامة. غياب هذه الأدوار أو ضعفها يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الشروط الهيكلية التي تسهل نشوء النزاعات.

خامساً، تُشير الأبحاث إلى أهمية التدخلات المتعددة الأبعاد التي تجمع بين تحسين الظروف الاقتصادية، تعزيز العدالة الاجتماعية، وحماية البيئة، بالإضافة إلى تعزيز القدرات المؤسسية للدول. من خلال تبني هذه النهج المتكاملة، يمكن معالجة جذور انعدام الأمن البشري والنزاعات العنيفة معالجة أكثر فعالية.

إن فهم الروابط بين انعدام الأمن البشري والنزاع العنيف يتطلب نهجاً شاملاً يأخذ في الاعتبار العوامل الهيكلية والبيئية والاجتماعية، مع التركيز على الحلول التي تعزز الاستقرار والتنمية المستدامة.

الدولة والأمن البشري

الدولة تلعب دوراً أساسياً ومحورياً في تعزيز الأمن البشري، وذلك من خلال مجموعة واسعة من الأدوار والمسؤوليات التي تقع على عاتقها. الأمن البشري الذي يشمل الحماية من التهديدات المتعددة، سواء كانت اقتصادية، صحية، بيئية، أم سياسية، يتطلب نهجاً شاملاً يضمن للأفراد العيش بكرامة وأمان.

أولاً، توفير الفرص: الدولة هي المسؤول الأول عن خلق فرص العمل ودعم التعليم والتدريب المهني الذي يمكّن الأفراد من اكتساب المهارات اللازمة للمشاركة الفعالة في سوق العمل. كما أن توفير الدعم للمبادرات الريادية وتسهيل الحصول على الائتمان يساهم في تعزيز الاقتصاد وخلق بيئة عمل مستقرة.

ثانياً، البنية التحتية والخدمات الأساسية: تعتبر الدولة مسؤولة عن بناء البنية التحتية الضرورية وصيانتها، مثل الطرق، المدارس، المستشفيات، وشبكات المياه والكهرباء. كما أن توفير خدمات الصحة والتعليم الجيدة يعتبر من العوامل الأساسية لتحقيق الأمن البشري.

ثالثاً، الحماية الاجتماعية: تلعب الدولة دوراً حيوياً في توفير شبكات الأمان الاجتماعي لحماية الأفراد والأسر من الفقر المدقع والأزمات الاقتصادية. برامج الدعم الاجتماعي، التأمين الصحي، ومعاشات التقاعد كلها أمثلة على الآليات التي تساهم في تحقيق الاستقرار الاجتماعي والأمن البشري.

رابعاً، الحوكمة والعدالة: تعزيز سيادة القانون وتوفير نظام قضائي عادل ومستقل يضمن الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين. كما أن الشفافية ومكافحة الفساد تعتبر من العناصر الأساسية لبناء ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة وتعزيز الأمن البشري.

خامساً، الاستجابة للأزمات والكوارث: تقع على عاتق الدولة مسؤولية التخطيط للطوارئ والاستجابة السريعة للكوارث الطبيعية والأزمات الصحية. إنشاء أنظمة فعالة للتنبيه المبكر والإجلاء، وتوفير الدعم والمساعدات للمتضررين يساهم في تقليل الخسائر في الأرواح والممتلكات. 

عموماً، تعتبر الدولة الركيزة الأساسية لتحقيق الأمن البشري من خلال توفير الفرص، الخدمات الأساسية، الحماية الاجتماعية، تعزيز الحوكمة والعدالة، والاستجابة للأزمات. النهج الشامل الذي يركز على تلبية احتياجات الأفراد والمجتمعات يساهم في بناء مجتمعات مستقرة وآمنة تسمح للجميع بتحقيق إمكاناتهم الكاملة.

خاتمة

في ختام هذا النقاش حول تغير المناخ وتأثيراته المتعددة الأوجه على الأمن البشري والنزاع العنيف، نستخلص أن العلاقة بين هذه المتغيرات معقدة وتتطلب استجابات متعددة الأبعاد ومنسقة على المستويات كافة. تغير المناخ ليس مجرد تحد بيئي، بل هو قضية تتقاطع مع الأمن الإنساني، الاستقرار السياسي، والتنمية المستدامة. الآثار المترتبة على تغير المناخ تتجاوز الحدود الجغرافية، وتؤثر على جميع الأمم والشعوب، ما يجعل من الضروري التعاون الدولي والعمل المشترك لمواجهة هذه التحديات.

لقد أوضحنا كيف يمكن لتغير المناخ أن يقوّض الأمن البشري من خلال التأثير على الموارد الطبيعية الضرورية للحياة، وكذلك من خلال تعزيز الظروف التي قد تؤدي إلى نشوب النزاعات. كما بينّا الدور الحاسم الذي تلعبه الدول في تعزيز الأمن البشري وتحقيق السلام من خلال توفير الخدمات الأساسية، الحماية الاجتماعية، والحوكمة الرشيدة.

من الضروري إدراك أن الوقت يداهمنا، وأن الحاجة ماسة إلى اتخاذ إجراءات فورية ومستدامة لمواجهة تغير المناخ وتداعياته على الأمن البشري. يجب أن تشمل هذه الإجراءات تخفيف آثار تغير المناخ من خلال الحد من الانبعاثات، وكذلك تعزيز قدرات المجتمعات على التكيف مع التغيرات البيئية المستقبلية. 

في النهاية، يعد التعاون الدولي والتزام الدول العمل الجماعي عبر الحدود الجغرافية والسياسية عاملاً حاسماً في تحقيق هذه الأهداف. يجب أن يكون هذا الجهد متعدد الأطراف، يشمل الحكومات، المنظمات الدولية، القطاع الخاص، المجتمع المدني، والأفراد، لضمان مستقبل مستدام وآمن للأجيال القادمة.

https://www.annaharar.com/205794

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top